ساحة التل في طرابلس: محاولات لإعادتها إلى أيام الزمن الجميل

تعتبر الساحات العامة في المدن والقرى الرئة التي من خلالها يتواصل أهالي المناطق وهي كالقلب الذي يمد شرايينها بالنمو والإزدهار والحياة… وهكذا هي ساحة التل بالنسبة لمدينة طرابلس، وهكذا كانت بالنسبة أيضا لمختلف المناطق الشمالية التي قصدها أبناؤها منذ تأسيسها للعمل والتجارة والدراسة والإستثمار، وهي التي بوشر في إنشائها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر فحملت الطابع العثماني والأوروبي في مبانيها ومنشآتها الرسمية والسكنية والتعليمية والإقتصادية خلافا للمدينة القديمة التي بناها المماليك في القرن الثالث عشر.

وتلك الساحة التي سرعان ما تطورت وتعددت منشآتها من السرايا الحكومية و”الكركون” (مقر الدرك) والبلدية ومن ثم الساعة ذات الطراز العثماني، فـ”المنشية” أو الحديقة العامة التي بنيت بعد إعلان دولة لبنان الكبير، سرعان ما تزامن كل ذلك ببناء عشرات الفنادق و”البانسيونات” ودور السينما واللهو والمقاهي والمسارح.
هو التل متنفس أهل المدينة وأهل القرى الذين أطلقوا على طرابلس لقب “أم الفقير” حيث كانوا يحصلون على حاجياتهم بأرخص الأسعار ويقصدون المدينة للتسلية وقضاء أوقات فراغهم أو يتابعون فيها دراستهم.

هذه الساحة كما هو حال كل شيء جميل في الزمن الجميل سرعان ما دب إليها الإهمال والفوضى، وتركت الحرب بصماتها البشعة على كل ما فيها من عمران وبناء ومؤسسات على إمتداد أكثر من 35 عاما وتحديدا منذ إندلاع الحرب اللبنانية حتى اليوم.

وبالرغم من كل المناشدات والمتابعات التي كانت تستفيد من أوقات الإستقرار للمطالبة بإعادة الساحة إلى الحياة وتنشيط مرافقها وتفعيل شرايينها التجارية والإقتصادية، لكن الأمر كان يزداد إهمالا حتى كادت الساحة تتحول إلى مجرد بسطات إلى جانب حالة إزدحام خانقة من جراء كثافة الكراجات والفوضى في حركة المرور، وسط غياب أي مشروع نهضوي لساحة التل.

لقد أثار هذا الواقع مشاعر العديد من القوى السياسية والمدنية والأهلية من ابناء طرابلس وتعددت مشاريعهم ورؤاهم لا سيما خلال السنوات الأخيرة. وبرز بشكل خاص المشروع الذي تقدم به السيد توفيق سلطان ويدعو فيه إلى إنشاء “سوليدير 2″ في طرابلس على غرار ما شهدته العاصمة بيروت مع توقف الحرب اللبنانية، غير أن شيئا من ذلك لم يحصل على أرض الواقع بل كادت الخلافات وخاصة ما سمي بمشروع تحويل الجزء الأكبر من ساحة التل إلى مرآب عام، أن تطيح بإمكانية التوافق حول مشروع إنمائي وإقتصادي لساحة التل”.

عطية
عن هذه الأحوال يتحدث عدد من المهتمين والفعاليات الهندسية والإنشائية والثقافية فالمدير السابق لمعهد العلوم الإجتماعية – الفرع الثالث في طرابلس الدكتور عاطف عطية يشير إلى وضع طرابلس عندما كان طفلا يزورها مع والده، “ولم تكن الكهرباء قد إنتشرت في الشوارع والساحات”.
ويتناول دور المصورين الفوتوغرافيين الأرمن الذين كانوا يتخذون من زوايا السرايا العثمانية في ساحة التل مركزا لهم.

ويقول: “عندما قدر لي أن أنزل إلى طرابلس لإكمال تعليمي في المرحلة المتوسطة وفي الليلة الأولى لي في المدينة أخذني شقيقي معه إلى ساحة التل فأدهشني المنظر: الكهرباء ليست كهرباء فقط، بل هي تمشي وترقص وتتلوى، ولم أعرف يومها كيف يحصل ذلك. والماء ينبثق من الحائط دون أن أدرك كيف ذلك (سبل الماء في الشوارع)”.

زريق
من جهته يتناول رئيس الهيئة الإدارية لمؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية الدكتور سابا زريق مرحلة الطفولة التي أمضاها في ساحة التل، ويقول: “إن في قعر ذاكرتي صورة باهتة عن “كزدورة” يتيمة إصطحبتني فيها المرحومة والدتي في “حنتور” تظلل مقاعده خيمة سوداء، يجره حصان يختال برشاقة ضاربا بحوافره الأرض المعبدة في طريقه إلى “الأسكلة” (الميناء)، وذكرى أخرى لا تفارقني هي مرافقتي أحيانا لجدي في زيارته اليومية إلى اصدقائه”.

يضيف: “وكانت محطتنا الثانية في المرحلة الثانوية من دراستنا تحط رحالها في محلات الحلاب المتميزة بحلوياتها الإسطورية وبكونتوارها الخشبي وأوانيها النحاسية البراقة، فإلى المحلات المنتشرة في ساحة وشارع التل من باعة الأقمشة والمأكولات والملبوسات والأدوات الرياضية، إلى دور السينما وأفلامها المتواصلة على مدى النهار لقاء بدلات زهيدة، إلى الأجواء الإحتفالية التي كانت ترافق حلول الشهر الفضيل وخاتمته عيد الفطر المبارك وصدى صوت المسحراتي “يا صايم وحد الدايم”.

ويتابع: “أما السمة البارزة لساحة التل والشوارع المتفرعة منها فكانت الأطياف المختلفة التي كانت ترتادها قادمة من ضواحي المدينة، وكان التل في زمني قد شهد هجرة إلى نواحي طرابلسية أخرى إذ أعاد العديد من الطرابلسيين تمركزهم في مدينتهم، فاستحدثوا مناطق سكنية وتجارية ولكن هويتنا ليست مجرد قيد في سجل، فهي لا تكتمل دون ذكرياتنا التي هي جزء لا يتجزأ من كياننا، وتكاد تلتصق بحمضنا النووي لتشكل فرادة كل منا، تتكدس لحظة فلحظة، كمدماك صرح يعلوه مدماك”.

منجد
ويقول رئيس المجلس الثقافي للبنان الشمالي صفوح منجد: “لقد كان آباؤنا وأجدادنا بل البناة الأوائل لمدينة طرابلس أكثر حضارة ورقيا وفهما حقيقيا للبناء المديني مما نحن عليه اليوم. وبصراحة أتساءل أين هي الساحات اليوم في طرابلس؟ بل هل هناك ساحة رئيسية في طرابلس؟ ومنذ الإستقلال إلى اليوم أين هو الشارع الذي بإمكانه أن يضاهي طريق الميناء مثلا أو شارع عزمي أو طريق المئتين؟ باستثناء ربما البولفار الممتد من البحصاص إلى مستديرة النهر؟”.

ويتساءل: “هل يتذكر أحد معي أن التل شهد إقامة ممرات خاصة للمشاة وللذين يودون الإنتقال من رصيف إلى آخر، وأن طرابلس كانت أول مدينة لبنانية تستخدم المسامير النحاسية لتحديد معالم هذه الممرات في مطلع ستينات القرن المنصرم؟ طبعا لم يعد من الممكن إستخدام هذه المسامير بل ليس لنا حاجة بها، وها هم الناس من نساء وأطفال وشيوخ يختلطون بالسيارات وبالفانات وبالدراجات الهوائية وكل يسير ويتنقل على هواه… أي فوضى هذه؟ وهل هناك من تدابير تعيد إلينا ذاكرة الزمن الجميل؟ هل بإمكاننا أن نصبر أكثر مما صبرنا على هذا الوضع المزري؟ طبعا المجلس البلدي الحالي لا يتحمل كل هذه التراكمات ولكن نأمل إضاءة شمعة في هذا النفق المظلم لنبدأ بخطوات عملية نحو تغيير ما هو قائم من مساوىء”.

وختم منجد: “نحن مدينة من دون أرصفة، ولا نتحدث عن أماكن بعيدة عن الوسط التجاري. بل أين هو هذا الوسط التجاري في الحقيقة؟ لقد إجتاحت التعديات كل الطرق وكل الأرصفة، حتى السيارة لم يعد بإمكانها السير على هذه الطرق. وهل تستعيدون معي صورة الفنادق التي إشتهرت بجمالها وبرقيها وبتجهيزاتها التي كانت توصف بأنها فنادق درجة أولى أو خمس نجوم؟ هل نستذكر البانسيونات والمطاعم التي بناها وأنشأها أبناء المناطق من مطعم البترون إلى بنسيون قاديشا إلى كراج بشري والمقهى الزغرتاوي ومواقف الكورة التي أعطت الساحة المجاورة للتل إسمها؟ كل هؤلاء غادروا الساحة ولكن صدقا أنهم على إستعداد لأن يعودوا غدا للإستثمار مجددا في التل وفي طرابلس”.

رجب
أما المهندس المعماري والأستاذ المحاضر في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية الدكتور مصباح رجب، فيتوقف عند ما تتطلبه طرابلس في إطار خطة التنمية الإستراتيجية لمدن الفيحاء من مشاريع ويتناول الإدارة المتكاملة والبنى التحتية والتجهيزات والقدرة التنافسية إلى جانب البنية الإجتماعية والإقتصادية. ويطرح 24 مشروعا لإعادة إحياء وسط المدن والأحياء التاريخية ومنها مشروع لترتيب شواطىء مدن الفيحاء (طرابلس والميناء والبداوي) وإنشاء شبكة متكاملة لمحطات الباصات والمواقف وملاحقة تنفيذ الطريق السريع الغربي وكذلك الطريق الشرقي وتفعيل المناطق الصناعية وتأهيل محطة سكك الحديد وكذلك تفعيل معرض رشيد كرامي الدولي.

ويشدد على “الإجراءات والآليات القانونية التي تعنى بترميم المساكن التاريخية وإنشاء هيئة تضم الشركاء المساهمين في إنجاح الحوافز المشتركة لإدارة وتنفيذ مشروع إعادة إحياء الوسط المديني والأحياء التاريخية مع تحديد أولويات وإقامة حملة تثقيف وترويج لهذا المشروع”.

ويقول: “الشروط الواجب توفيرها لنجاح هذا المشروع هو في وجود إرادة سياسية صادقة تعمل لصالح المدينة وتولي فريق عمل متكاملا مسؤولية تحقيق هذا المشروع وإعداد خطة طويلة الأمد تتقبل المرونة والتطوير وتحمل رؤية إستراتيجية لمنطقة التل وفق مسار تشاركي مع السكان والفاعليات الإقتصادية والقطاع العام في عملية إتخاذ القرار”.

فتفت
ويتحدث المهندس الإستشاري والأستاذ المحاضر في معهد الفنون – الفرع الثالث بطرابلس شوقي فتفت فيقول: “سأتوقف عند جزء من دراستنا التي تقدمنا بها إلى بلدية طرابلس عن رؤيتنا الحالية والمستقبلية للتل وتنطلق الدراسة من وجود منطقة الميناء والمعرض والمرفأ والمنطقة الصناعية إضافة للملعب الأولمبي والتل وهو جزء ومركز إقتصادي وجذب على جانب كبير من الأهمية وهو مهمل ويكتنفه النسيان. والتل يتألف من مركز السلطة البلدية وقصر نوفل وساحة وحديقة وهي من اهم الحدائق الموجودة، ومقهى التل العليا وبرج الساعة، وهي منطقة وصل مع شارع عزمي وطريق الميناء وهي الوسط الذي يؤدي إلى كافة أحياء المدينة القديمة”.

يضيف: “التل هو القلب النابض للمدينة إذا عرفنا كيف نستثمره. وكلما اردنا ان نفكر ماذا نفعل يجب ان نعود بالصورة إلى الوراء وكيف بإمكاننا ان نعيد التل إلى ما كان عليه، سيما وأن للمنطقة بعدا رمزيا في تراكم الذاكرة وقد مرت على التل دوائر ومراكز مختلفة للسلطات المحلية والرسمية بعضها ما يزال يتخذ مقرا له في التل وبعضها الآخر إنتقل إلى اماكن أخرى. والتل سائر نحو فقدان نقاط الجذب مستقبلا”.

وتابع: “التل هو حيز إقتصادي وتجاري هام وهكذا كان وعلى صعيد كل المناطق المجاورة ولكن هذا الدور آخذ نحو التقلص. وهناك بعد جمالي ما يزال قائما ويدل على الغنى المعماري من كل النواحي وحديقة تراثية إلى جانب إرث ثقافي متراكم. وقد مرت عليه أحداث مختلفة وهو موجود في الذاكرة عند الحديث عن كل شأن طرابلسي وهو مركز إستقطاب لكثير من المناطق إضافة إلى محيطه”.

تحقيق ليلى دندشي